
جوزف طوق
هناك أولاد يلعبون في الساحات، ويتشَيطنون في المدارس، ويُخربشون على الجدران ويصنعون ألعاباً من كلّ ما تطاله أيديهم... ولكن، أيُعقل أن يكون هناك أطفال يملكون هذا القدر من الموهبة والصوت الجميل والثقة بالنفس للوقوف على مسرح «The Voice Kids» وتقديم هذا المستوى من الأداء؟هل من الممكن أن تكون محطة MBC قد عَمدت إلى خداعنا في الموسم الأول من برنامج «The Voice Kids» واستقدمت أهم التلامذة من معاهد الموسيقى العربية والأجنبية لتوفير توليفة تلفزيونية ناجحة؟ أم أنّ هناك بالفِعل مواهب تعيش ببساطة بيننا وتشاركنا حياتنا اليومية، ونحن الذين بقينا غافلين عنها طوال هذه المدة؟
على الأرجح انّ الفرضية الثانية هي الواقعية أكثر وليست الأولى... لأنّ أولاد العرب، سواء كانوا يغنّون في أضخم البرامج ويبهرون ملايين المشاهدين، أو كانوا يموتون في أصغر مقاطع الفيديو ويصدمون ملايين المشاهدين... ففي كلتا الحالتين نحن لا نتعدّى كوننا مجرّد مجموعة من المتفرّجين التي لن ترفع قفاها عن أريكة لتغيير شيء لا في مستقبل الأوّلين ولا في واقع الثّانِين.
بين عمر 7 و14 سنة، أتذكر أنّ ملابسي لم تكن تنظّف على أيدي والدتي من أوساخ الحَوش والطرقات والألعاب، وأتذكّر أنّ قمة طموحنا في تلك الفترة كانت شراء طابة جديدة أو التعرّف إلى إحدى الألعاب الإلكترونية التي بدأت تجتاح عالمنا. أمّا هؤلاء الأطفال الذين يطلّون علينا كلّ سبت، فهم بالتأكيد ينتمون إلى فضاء مختلف، إلى فضاء تولَد فيه النجوم وتكبر.
ولا يجب أبداً استسهال وقوفهم على المسرح أمام عدسات الجمهور والكاميرات، لأنّ هذا الأمر يتطلب كميّات من الجرأة الممزوجة بالموهبة لتقديم أغنية يمكن أن نَطرب لها... فأنا والله كنتُ أبلغ العشرين من عمري أو أكثر عندما طُلب منّي قراءة نصّ على مسرح الجامعة أمام جمهور يتألّف بمعظمه من الأصدقاء والصديقات... ومع ذلك، لا زلت أعاني حتى اليوم الأضرار النفسية التي تَركها ذلك النهار في شخصيتي.
هل من المعيب أن نغار من هؤلاء الصغار الذين يجتاحون المسرح وكأنّ الميكروفون لعبتهم المفضّلة؟ بالتأكيد لا، لأنّ برنامج «The Voice Kids» خلقَ فتحة في حائط واقعنا العربي، فتحة نَتلصَّص عبرها على بعض من الجمال المطمور تحت مواهب أطفالنا وأحلامهم... فتحة نُشبع من خلالها لذّتنا بمشاهدة ما هو استثنائي، ونطمر فيها فواصل من مسرحيات تغاضينا عن مآسي الأطفال الآخرين الذين لم يترك الظلم مكاناً لمواهبهم.
منذ بداية الموسم الأول من البرنامج، كان هناك تعاطف واضح مع المشتركين السوريين والعراقيين، وتعاطف أكبر مع اللعبة الإعلامية التي انتهَجها البرنامج، خصوصاً مع الموهبتين ميرنا حنا وغنى بو حمدان، وأرقام المشاهدة على موقع «يوتيوب»، والتي تخطّت 30 مليون مشاهدة لكلّ واحدة منهما، خير دليل على ذلك، وهي مؤشّر صريح لطبيعة شخصيتنا، إذ إننا نرى الأمور دائماً من بوّابة العاطفة، فترانا نَنجَرّ بسهولة خلف أخبار الخطف والاغتصاب والموت والتهجير... ولا شكّ أنّ فريق إنتاج البرنامج لعبَ بطريقة ذكية جداً على هذا الوَتر لضمان أكبر نسَب من المتابعة، والتي تمكّن من تحقيقها بفضل البهارات العاطفية والإنسانية التي تمّ إسقاطها هنا وهناك، وذلك بعكس النسخات الاجنبية التي تسعى إلى تظهير الشقّ المهني.
الكبار باتوا يتحمّسون لمشاهدة «The Voice Kids» كالأطفال، ولم يتأخّر البرنامج في أن يكون شاغل المشاهدين الأوّل على التلفزيون، وكم من أمسية رأيتُ فيها دموع الفرح والتأثّر تسيل على خدود الرجال والنساء، وكادت أن توازي في بعض اللحظات دموع الحزن التي سالت تأثّراً بمشاهد عذابات أطفال العرب.
ومهما كان مستوى حماستنا وتأثّرنا، ومهما كانت الحسابات الإنتاجية، يبقى أجمل ما في هذا البرنامج، جرعة الأمل الفائضة التي تتجسّد على شاشاتنا كلّ أسبوع، أمل بمستقبل يَشدو فيه أولاد يتمتّعون بمواهب وخامات جميلة تَعِد آذاننا براحة الاستماع في خضَمّ الابتذال.
وفي النهاية، «The Voice Kids» هو لعبة تلفزيونية فيها الربح والخسارة وفيها الفرح والحزن. والحرب للفوز باللقب ليست مجرّد معارك متكرّرة بين أصوات جميلة، وإنما عامل كاريزما الأطفال وقابليتهم لدخول قلوب الناس تؤدي دوراً كبيراً في تأمين نسَب التصويت الضرورية للفوز... ولا تحزنوا على هؤلاء الصغار إذا خرجوا من البرنامج، فخسارتهم ليست سوى درس كبير على درب مزروعة بالمصاعب والأحلام صوب النجاح... ومهما استدارَت كراسي النجوم الحمراء، يبقى هناك حاجة ملحّة لاستدارة كراسي الحكّام المذهّبة ناحية الشوارع لخَلق تغيير في حياة الأطفال الراكضة هناك... لأنّ هؤلاء ليسوا مصنوعين للموت فقط.